فصل: بحث نفيس في الحلال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء} استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة بضم، وكل من هذا شأنه فهو عدو مبين أو علة للأصل بضم، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللًا بعلتين العداوة والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] ينافي ذلك لكونه مبنيًا على أن المعتبر في الأمر العلو كما هو مذهب المعتزلة وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان، وعلى أن يكون عبادي لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى أن الخطاب في {يَأْمُرُكُمْ} لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا منافاة أيضًا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلابد أن يقال: يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلابد أن يقال: يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلابد من رعاية طريق استعماله. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ:
أولها: السُّوء، وهو: متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءًا؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءًا ومَسَاءَةً إذا أحزنه، وسُؤْتُهُ، فَسِيءَ إذا أحزنته، فحزن؛ قال تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27]؛ قال الشَّاعر: السريع:
وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي ** فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ

أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ ** لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ

وثانيها: الفحشاء: وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس، والفحش: قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ: الطويل:
وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ** إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ

وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عينًا.
والفَحْشَاءُ: نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي: ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}.
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- أنَّه قال: {الفَحْشَاءُ} من المعاصي: ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا.
وقيل: هي البخل، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ: كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} [البقرة: 368] فإنه منع الزكاة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
لم يبين هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم، ولكنه فصله في مواضع أخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو: أن الله حرم البحائر والسوائب ونحوها، وأن له أولادًا، وأن له شركاء، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} [المائدة: 103]، وقوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افتراء عَلَى الله} [الأنعام: 140] الآية، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} [يونس: 59] الآية، وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَام} [النحل: 116]، إلى غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ونحوها من الآيات، ونزه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سُبْحَانَه} [البقرة: 116] الآية، ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل ما أجمل في اسم الموصول الذي هو ما، من قوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.أصل الحليّة:

هذه الآية تدل على أنّ الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض الحليّة، والمستثناة هي الأغذية المحرمة.
من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحلية. وهذا ما يقتضيه أيضًا طبيعة الخليقة. إذ لابدّ من وجود تنسيق بين القوانين التشريعية والقوانين التكوينية.
بعبارة أوضح ما خلقه الله لابدّ أن ينطوي على فائدة لعباده. من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلى للأطعمة على ظهر الأرض التحريم. فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، ومادام لا يشكل ضررًا على الفرد والمجتمع. اهـ.

.طريقة الوسوسة الشّيطانية:

الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان: فقالت: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية. وقد يطرح سؤال بشأن هذه الأوامر الشيطانية إذ لا يحسّ الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب السيئات، ولا يتلمس سعيًا شيطانيًا لإضلاله.
الجواب هو أن هذه الوسوسة تأثير خفي عبّرت عنه بعض الآيات بالإيحاء: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ} (486). والإيحاء من الوحي الذي هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللاواعية أحيانًا.
وثمّة فرق بين الإلهام الإلهي والوسوسة الشيطانية هو أن الإلهام الإلهي لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح، يترك في النفس حالة انبساط وانشراح.
بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة، تجعل القلب يحسّ بظلام وانزعاج وثقل. وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب السيئة فإنه يحسّ بها بعد الارتكاب. هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية والإلهامات الإلهية. اهـ.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}:
ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يُظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم، ولذلك سماه الله وليًّا فقال: {ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا} [النساء: 119]، إلاّ أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتِّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلاّ أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته. اهـ.

.لطيفة في التلذذ بالمحرمات:

الحرام- وإنْ اسْتُلِذَّ في الحال- فهو وبيء في المآل، والحلال- وإن اسْتُكْرِه في الحال- فهو مريء في المآل.
والحلال الصافي ما لم ينسَ مُكْتَسِبُه الحقَّ في حال اكتسابه.
ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق في كل حال.
وكلُّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان. اهـ.

.بحث نفيس في الحلال:

قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة في حرف الحلال:
وجه إنزال هذا الحرف توسيع الاستمتاع بما خلق الله في الأرض من نعمة وخيره الموافقة لطباعهم وأمزجتهم وقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع من طعام وشراب ولباس ومركب ومأوى وسائر ما ينتفع به مما أخرج الله سبحانه وتعالى ومما بثه في الأرض وما عملت أيديهم في ذلك من صنعة وتركيب ومزج ليشهدوا دوام لبس الخلق الجديد في كل خلق على حسب ما منه فطر خلقه؛ ولما كان الإنسان مخلوقًا من صفاوة كل شيء توسع له بجهات الانتفاع بكل شيء إلا ما استثنى منه بحرف الحرام ووجهه كما استثنى لآدم أكل الشجرة من متسع رغد الجنة فكان له المتاع بجميعه إلا ما أضر ببدنه أو خبث نفسه أو ران على علم قلبه وذلك بأن يسوغ له طبعًا وتحسن مغبّته في أخلاق نفسه ويسنده قلبه لمنعمه الذي يشهد منه بداياته وتكملاته تجربة ثم كمل القرآن ذلك بإخلاصه للمنعم من غير أثر لما سواه فيه وجامع منزله بحسب ترتيب القرآن قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] ومن أوائله بحسب ترتيب- البيان والله سبحانه وتعالى أعلم.
{هو الذي أنزل لكم من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} [النحل: 10] الآية وسائر الآيات الواردة في سورة النحل وفي سورة يس إذ هي القلب الذي منه مداد القرآن كله في قوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون} [يس: 23] الآيات إلى سائر ما في القرآن من نحوه، ومن متسع خلال هذا الحرف وقعت الفتنة على الخلق بما زين لهم منه {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14] الآية ووجه فتنته أن على قدر التبسط فيه يحرم من طيب الآخرة {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف: 20] «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] ومن رؤية سوء هذا المخبر نشأ زهد الزاهدين، ومن رؤية حسن المتجر وربحه وتضاعفه إلى ما لا يدرك مداه ونعيمه في بيع خلاق الدنيا بخلاق الآخرة نشأ ورع المتورعين؛ فاستراحت قلوبهم بالزهد، وانكفئوا بالورع عن الكد، وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد في سبيل الحمد، وتميز الشقي من السعيد بالرغبة فيه أو عنه، فمن رغب في الحلال شقي ومن رغب عنه سعد؛ وهو الحرف الذي قبض بسطه حرف النهي حتى لم يبق لابن آدم حظ فيما زاد على جلف الطعام وهي كسرة وثوب يستره وبيت يكنه، وما زاد عليه متجر إن أنفقه ربحه وقدم عليه وإن ادخره خسره وندم عليه؛ ولذلك لم يأذن الله سبحانه وتعالى لأحد في أكله حتى يتصف بالطيب للناس الذين هم أدنى المخاطبين بانسلاخ أكثرهم من العقل والشكر والإيمان {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا} [البقرة: 168] ومحا اسمه عن الذين آمنوا وهم الذين لا يثبتون ولا يدومون على خير أحوالهم بل يخلصون وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] وهو ما طيبه حرف النهي علمًا، وبرئ من حوادّ القلوب طمأنينة، وتمم وأنهى صفوة للمرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] وورد جوابًا لسؤالهم في قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} [المائدة: 4]؛ فمن آثر حرف النهي على حرف الحلال فقد تزكى واتبع الأحسن وصح هداه وصفا لبّه ومن آثر حرف الحلال على حرف النهي فقد تدسّى وحرم هدى الكتب وعلم الحكمة ومزيد التأبيد بما فاته من التزكية وتورط فيه من التدسية والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ثم قال فيما به تحصل قراءته: اعلم أن الإنسان لما كان جامعًا كان بكل شيء منتفعًا أما في حال السعة فمع استثناء أشياء يسيرة مما يضره من جهة نفسه أو غيره أو ربه على ما ذكر في الفصل الأول أي حرف الحرام {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} [الأنعام: 145] الآية: وأما في حال الضرورة فبغير استثناء البتة {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173]؛ {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3]؛ والذي تحصل به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته ومعرفة أخص منافعها مما خلقه، ليكون غذاء في سعة أو ضرورة وإدامًا أو فاكهة أو دواء كذلك؛ ومعرفة موازنة ما بين الانتفاع بالشيء ومضرته واستعماله على حكم الأغلب من منفعته، أو اجتنابه على حكم الأغلب من مضرته {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] وذلك مدرك عن الله سبحانه وتعالى باعتبار العقل وإدراك الحس في مخلوقاته كما أدركه الحنيفيون، كان الصديق رضي الله تعالى عنه قد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان إذا أخذ عليه في ذلك يقول: والله لو أصبت شيئًا أشتريه بمالي كله يزيد في عقلي لفعلت فكيف أشتري بمالي شيئًا ينقص من عقلي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما ينبه على حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء التي بها تتناول أو تجتنب عملًا بقوله تعالى: {يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164] فقال لطلحة رضي الله تعالى عنه وقد ناوله سفرجلة «تذهب بطخاء الفؤاد» وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو رمد في خبز الشعير والسلق: «كل من هذا فإنه أوفق لك» وقال في التمر والقثاء: «حر هذا يكسر برد هذا» وقال لرمد: «أتأكل التمر وأنت رمد» وقال لعائشة رضي الله تعالى عنها في الماء المشمس: «لا تفعلي يا حميراء! فإنه يولد البرص» وقال: «استاكوا بكل عود ما خلا الآس والرمان فإنهما يهيجان عرق الجذام» وقال لامرأة استطلقت بالشُّبْرُم: «حار جار، ألا استطلقت بالسنا؟ فإنه لو كان شيء يذهب الداء لأذهبه السنا» إلى غير ذلك مما إذا أباحه أو حظره نبه على حكمته.
وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول للمريض: اصنعوا له خزيرة فإنها مَجَمّة لفؤاد المريض وتذهب بعض الحزن. ومثل ذلك كثير من كلام العلماء رضي الله تعالى عنهم ومجربات الحكماء ومعارف الحكماء الحنفاء، قال الشافعي رحمه الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] الطيبات ما استطابته نفوس العرب، والخبائث ما استخبثته نفوس العرب؛ هذا من جهة القلب وأما من جهة النفس فسخاؤها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات، لأن الشحّ بالحلال عن مستحقه محظر له على المختص به الضيافة على أهل الوبر {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء: 8] {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الروم: 38] {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] وكذلك صبرها عما تشتهيه من المضرات من الوجوه المذكورة {إنما الخمر والميسر} [المائدة: 90] إلى قوله: {لعلكم تفلحون} {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9 والتغابن: 16] وكذلك التراضي وطيب النفس فيما يقع فيه الاشتراك {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النساء: 4] هذه الشروط الثلاثة من السخاء والصبر والتراضي في النفس، وأما في العمل وتناول اليد فأول ذلك ذكر الله والتسمية عند كل متناول، لأن كل شيء لله فما تنوول باسمه أخذ بإذنه وما تنوول بغير اسمه أخذ تلصصًا على غير وجهه وشارك الشيطان في تناوله فتبعه المتناول معه في خطواته وشاركهم في الأموال والأولاد؛ جاء أعرابي وصبي ليأكلا طعامًا بين أيدي النبي صلى الله عليه وسلم بغير تسمية فأخذ بأيديهما وقال: «إن الشيطان جاء ليستحل بهما هذا الطعام، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع أيديهما» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم وأكل ثم أطلقها وقال: «كلا باسم الله» وقال لغلام آكل: «يا غلام! سمّ الله» والثاني التناول باليمين، لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، واليمين خادم ما علا من الجسد والشمال خادم ما سفل منه. والثالث أن يتناول تناول تقنّع وترفع عن تناول النهبة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاثة أصابع، ويشرب مصًّا في ثلاث وقال: «هو أبرأ وأمرأ وأهنأ» وقال: «الكُباد من العبّ» والرابع الاكتفاء بما دون الشبع لما في ذلك من حسن اغتذاء البدن وحفظ الحواس الظاهرة والباطنة؛ ومن علامات الساعة ظهور السمن عن الأكل في الرجال؛ و«ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطن» و«ما دخلت الحكمة معدة ملئت طعامًا» و«المؤمن يأكل في معّى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» لتوكل المؤمن في قوامه ولا تكال الكافر على الغذاء في قوته: «وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلًا فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس». انتهى.
قلت: ولعل المراد أن الكافر يأكل شبعًا فيأكل ملأ بطنه لأن الأمعاء كما قالوا سبعة، والمؤمن يأكل تقوتًا فيأكل في معّى واحد وهو سبع بطنه، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهو الثلث- والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي: والخامس حمد الله تعالى في الختام، لأن من لم يحمد الله في الختام كفر بنعمته. ومن حمد غير الله آمن بطاغوته؛ فبهذه الأمور معرفة في القلب وحالًا في النفس وآدابًا في العمل تصح قراءة حرف الحلال ويحصل خير الدنيا ويتمدد الأساس لبناء خير الآخرة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. انتهى.